لغة الجسد في خطاب جلالة الملك بالأمم المتحدة


أنباء الوطن -

بقلم / الدكتور عديل الشرمان

قد يكون الاتصال غير اللفظي اقوى تأثيراً من الرسائل اللفظية، لأنه يعبر عن مشاعر وعواطف بداخل الفرد يمكن قراءتها عن طريق حركات الجسد وتعابير الوجه واللباس والعينين ونغمة الحديث وغيرها، وما قد تخفيه المفردات والكلمات وراءها قد يكشفها الجسد بلغته في كثير من الاحيان، فالاتصال غير اللفظي أفصح من لغة اللسان ،وهي حركات لا إرادية تخفي مدلولات ومعاني نفسية، أنها لغة الإعلام ذات الأثر الأكبر في النفس، وهي الأساس في تكوين الصورة الذهنية.
بخطى ثابته واثقة اعتلى جلالته منصة الخطاب للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة والسبعين بمظهره اللائقوبلباسه الرسمي الذي يقترب في ألوانه مع خلفية منصة الخطاب من ألوان العلم الاردني الاربعة، ومنذ أن جلس على كرسي الانتظار استعدادا لإلقاء الخطاب جلس على حافة الكرسي مما يدل على الاهتمام والجدية، في حين أن الجلوس في حالة استرخاء دليل على عدم الاكتراث والاهتمام.كانت هيئته في الوقوف منتصباً بشكل عامودي دون انحناء الى منصة الخطاب، وبشكل يعكس هيبة القيادة وفن الالقاء، والاعتداد والثقة بالنفس، كما كانت طريقة القاء الخطاب التي توحي بالارتجالية في الحديث الى الحاضرين، وتوزيع النظرات بعدالة الى اليمين واليسار والامام دليلاً اخر على حنكته وحكمته وتمكنه من فن الالقاء وجذب انتباه الحاضرين، واثناء القاء خطابه كانت حدة ونبرة الصوت تسير على وتيرة واحدة ذات نفس قوي يتخللها ارتفاعات وانخفاضات في الحدة والمستوى عند بعض مقاطع الكلام للتأكيد على جوانب من الحديث، ولشد انتباه الحضور والابتعاد بهم عن الشعور بالملل، كما انها علامة من علامات قوة الموقف وعدالة القضايا التي يدافع عنها، كما ان حركات اليدين المنضبطة حيث الحركات الهادئة المتزنة غير الانفعالية ولا السريعة تؤكد قوة وصلابة الشخصية، وكانت حركات الرأس أفقية بالكامل طوال الخطاب، وذلك في لغة الجسد دليل الرفض، بعكس حركة الرأس إلى أعلى واسفل والتي تدل على الموافقة.
لم تكن حالة الاعتداد والثقة بالنفس قادرة على اخفاء حالة اليأس والاحباط مما يجري في العالم والمنطقة على وجه الخصوص، ولم تكن تلك الحالة قادرة على اخفاء ما يشعر به من قلق وخوف من المستقبل الذي يلفه الظلام والغموض، وقد بدا ذلك واضحاً في الحاجبين العاقدين وهما دليل الدهشة مما يجري، وفي ثنايا الخطوط الثلاثة ذات التضاريس المعقدة التي رسمت على جبهته، والتي تدل دلالة واضحة على حجم المعاناة الطويلة التي استمرت ما يقاربالعقدين من الزمن منذ تولي جلالته سلطاته الدستوريةوهو في حالة كد وتعبوعمل دؤوبوسهر وصراع مستمر متواصل في الدفاع عن امل الامة ومستقبلها وقضاياها، ومستقبل اجيالها القادمة.

كما ان سماحة وجمال الوجه الذي يتمتع به جلالته لم تكن قادرة على اخفاء قسمات الغضب الظاهرة اثناء القاء الخطاب والتي تشير الى الاستياء من الطريقة التي يتعامل فيها المجتمع الدولي مع ملفات المنطقة (القضية الفلسطينية، ووضع القدس، واللاجئين...الخ)، وتعكس ايضا حجم الهموم والاعباء والضغوط التي أثقلت كاهله الداخلية منها والخارجية، وقد تكرر زم الشفتين بقوة عدة مرات أثناء إلقائه الخطاب وفي نهاية كل محور من محاوره، وهذا في لغة الجسد يعني حالة من القلق والندم على فشل معظم الجهود التي بذلت في معالجة القضايا محور الخطاب أو الحديث، وبدا ذلك بوضوح عندما انتهى جلالته من التساؤل عن المخاطر التي تهدد تراث القدس وهويتها، والى متى ستظل تواجه هذه المخاطر.كما استخدم حركة اليد القاطعة، اي التلويح باليد كالسكين لعدة مرات وفي أكثر من موقع، ويتم استخدام هذه الحركة عند شرح وجهة نظر في قضية ما للدلالة على أن مستخدمها اتخذ قرارات يؤمن بها ولن يقبل بغيرها أو يقوم بتغييرها.

وفي ذات السياق فان القضية الفلسطينية وما يتصل بها من قضايا (كاللاجئين، والاستيطان، والأونروا، والوصاية الهاشمية على القدس، ...الخ) ، اخذت مساحة زمنية من الخطاب تزيد على الثلثين، حيث كادت وحدة الموضوع في الخطاب أن تكون الصفة الغالبة عليه، وهو نفس الحال في معظم خطابات جلالته في المحافل الدولية .     وبقدر ما كان خطاب جلالته ناجحا في وصف المشهد وتشخيص الحالة، كانت لغة الجسد فيه وادوات الاتصال غير اللفظية مؤشرا على صعوبة المشهد وتعقيداته، والتشاؤم مما يمكن أن تؤول إليه الحالة.
طريقة وأسلوبجلالته وهو يلقي الخطاب وما حمله من مضامين تجعل الاردنيين يشعرون بفخر كبير بملكيهم، حيث فصاحة وطلاقة اللسان، وسلامة النطق، واختيار المفردات بعناية ودقة، انه مصدر فخرنا واعتزازنا، نرفع به رؤوسنا، ونرفع له القبعات اجلالاً واحتراماً وكبرياء.