ترامب لا يريد صدامًا مع العشائر… ونتنياهو يخسر آخر أوراقه في غزة

زياد فرحان المجالي
في اللحظة التي خُيِّل فيها للعالم أن الحرب في غزة قد وضعت أوزارها، اندلع صراع جديد لا يقل خطورة عن الذي سبقه، لكنه هذه المرة داخليٌّ، فلسطينيٌّ بامتياز.
تحوّلت المعركة من مواجهة بين إسرائيل والمقاومة إلى مواجهةٍ بين حماس والعشائر الفلسطينية، في مشهدٍ يختلط فيه السلاح بالانقسام، والدم بالسياسة، والمجتمع بالخرائط الدولية التي تُرسم فوق جراح الناس.
ومع تصاعد الاشتباكات في شمال القطاع ومدينة غزة، دخلت واشنطن على الخط ببيانٍ مقتضبٍ من القيادة المركزية الأميركية "CENTCOM” يدعو إلى "وقف الاقتتال الداخلي فورًا”.
لكنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي ينظر إلى السياسة بعين رجل الصفقات لا الدبلوماسية، قرأ المشهد بطريقةٍ مختلفة تمامًا.
ففي مؤتمرٍ صحفي في البيت الأبيض، قال عبارته التي اختزلت الموقف الأميركي كله:
> "حماس تخلّصت من بعض العصابات السيئة، ولا يزعجني ذلك كثيرًا.”
لم تكن تلك الجملة زلة لسان ولا تهورًا إعلاميًا، بل كانت ترجمة دقيقة لسياسة براغماتية أميركية ترى في الفوضى وسيلةً لإعادة ترتيب المشهد داخل غزة دون تدخلٍ مباشر ولا كلفةٍ بشرية أميركية.
فترامب لا يريد حربًا جديدة، لكنه لا يمانع أن تتصارع الأطراف المحلية حتى يخرج منها "نظامٌ جديد” يعاد تشكيله بما يخدم مصالحه.
واشنطن بين شعار التهدئة وحسابات النفوذ
تقدّم واشنطن نفسها كراعٍ للسلام، لكنها تدير تحت هذا الشعار لعبةً أكثر تعقيدًا؛ لعبة إعادة توزيع القوى داخل غزة.
واشنطن بين شعار التهدئة وحسابات النفوذ
تقدّم واشنطن نفسها كراعٍ للسلام، لكنها تدير تحت هذا الشعار لعبةً أكثر تعقيدًا؛ لعبة إعادة توزيع القوى داخل غزة.
التهدئة بالنسبة للإدارة الأميركية ليست نهاية الحرب، بل وسيلة لبدء هندسةٍ سياسيةٍ جديدة، تضعف حماس وتُبرز العشائر كمكوّنٍ يمكن احتواؤه والتعامل معه ضمن "نظامٍ اجتماعي قابل للضبط”.
بهذه النظرة، تتحوّل الشعارات الأخلاقية إلى أدواتٍ لتكريس واقعٍ سياسيٍّ جديد، تُستخدم فيه العشائر كجسورٍ لبناء حكمٍ محليٍّ تابع لا مستقلّ، ووسيلةٍ لإعادة إنتاج السيطرة عبر واجهاتٍ فلسطينيةٍ منزوعة القرار.
العشائر… من عمق المجتمع إلى واجهة الصراع
منذ أن تراجعت القبضة الأمنية لحماس في الشمال بعد الهدنة، برزت العشائر الفلسطينية كمراكز قوةٍ محلية تمتلك السلاح والامتداد الاجتماعي وشبكات الحماية الذاتية.
في بيت لاهيا اندلعت مواجهات بين مسلحين من عشيرة المنسي وعناصر حماس، وفي حيّ الصبرة اشتبكت عشيرة دغمش مع مقاتلي الحركة وسقط عدد من القتلى بينهم محمد عماد عقل.
وفي خانيونس، أعلن حسام الأسطل صراحةً:
> "لن أسمح لابن كلب من حماس يدخل خانيونس.”
هذه الوقائع لم تكن حوادث معزولة، بل مؤشرات على تحوّلٍ اجتماعيٍّ عميق داخل غزة، حيث بدأت البُنى القبلية تستعيد حضورها السياسي، وتتحوّل من مكوّنٍ اجتماعي إلى لاعبٍ
في معادلة القوة.
لقد تحوّل المجتمع الذي حكمته حماس لسنواتٍ طويلة إلى ساحةٍ تتقاطع فيها المصالح المحلية مع الحسابات الإقليمية، وأصبحت بعض العشائر ورقةً يتنازعها الجميع — من واشنطن إلى تل أبيب.
إسرائيل… من خصمٍ مباشر إلى وصيٍّ ميداني
في تطورٍ لافت، كشفت وسائل إعلامٍ عبرية أن الجيش الإسرائيلي بدأ يتولّى حماية بعض العشائر قرب "الخط الأصفر”، وسمح لها بالتحرك ضمن ترتيباتٍ ميدانيةٍ محدودة، في خطوةٍ تُعبّر عن تحولٍ جذري في التفكير الإسرائيلي.
وقال مصدر عسكري:
> "نحن نساعد العشائر ونحافظ على تواصلٍ دائمٍ معها.
بهذا الإعلان، انتقلت إسرائيل من مرحلة "العداء الكامل” إلى مرحلة الهندسة الاجتماعية، ساعيةً لبناء "نظام حكمٍ بديل” داخل القطاع.
نتنياهو الذي فشل في تحقيق الحسم العسكري والسياسي، لجأ إلى الحسم الاجتماعي: تفكيك البُنى القبلية حول حماس وإعادة تركيبها في نموذجٍ أكثر طواعية.
لكنّ هذا الرهان محفوفٌ بالأخطار، فلكل عشيرةٍ ذاكرةُ دمٍ وثأرٍ لا تُمحى، وأيّ علاقةٍ مع المحتل تبقى وصمةً لا تُغتفر.
وما تظنه إسرائيل "إدارة فوضى منضبطة” قد يتحوّل في أي لحظةٍ إلى فوضى تبتلع مُخططيها.
نتنياهو… حين خسر أوراقه أمام ترامب
منذ أن أعلن ترامب من البيت الأبيض انتهاء الحرب، فقد نتنياهو هامش المناورة الذي اعتاد اللعب به.
تحوّل من صانع قرارٍ إلى تابعٍ لاتفاقٍ لم يشارك في صياغته، وأُجبر على تسويق خطةٍ أميركية فرضت عليه شروطها علنًا.
ترامب، بعقلية رجل الأعمال، أغلق باب التفاوض قبل أن يبدأ، وجعل من إعلان "النصر” أداةً لإحراج إسرائيل لا لدعمها.
لقد وضع نتنياهو أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يقبل بالخطة الأميركية ويظهر كمنفّذٍ لها، أو يرفضها ويغرق في عزلةٍ سياسيةٍ داخليةٍ وخارجية.
من البنود العشرين إلى هندسة الخرائط
خطة ترامب ذات البنود العشرين لم تكن مشروع سلامٍ بقدر ما كانت خارطة نفوذٍ مموّهة.
أراد بها فرض واقعٍ جديدٍ في غزة: نزع سلاح المقاومة، وتأسيس إدارةٍ عشائريةٍ محلية ترتبط أمنيًا بإسرائيل وسياسيًا بواشنطن، بغطاءٍ مصريٍّ وتمويلٍ عربيٍّ محدود.
لكنّ الواقع على الأرض أكثر تعقيدًا:
العشائر ليست جسدًا واحدًا، والمقاومة لم تفقد قدرتها، والشارع الفلسطيني لا يقبل وصايةً جديدة مهما كان غلافها السياسي ناعمًا.
المثلث الجديد: واشنطن – تل أبيب – غزة
اليوم، يتشكّل مثلث القرار بملامح واضحة:
واشنطن ترفع شعار التهدئة وهي تمارس التفكيك من الداخل.
تل أبيب تحاول بناء نظامٍ عشائريٍّ يخدم أمنها دون احتلالٍ مباشر.
غزة ترفض أن تُختزل في صيغةٍ أمنيةٍ ضيقة، وتتمسّك بأن الشرعية تولد من إرادة الناس لا من خريطة المكاتب.
خطة ترامب ذات البنود العشرين لم تكن مشروع سلامٍ بقدر ما كانت خارطة نفوذٍ مموّهة.
أراد بها فرض واقعٍ جديدٍ في غزة: نزع سلاح المقاومة، وتأسيس إدارةٍ عشائريةٍ محلية ترتبط أمنيًا بإسرائيل وسياسيًا بواشنطن، بغطاءٍ مصريٍّ وتمويلٍ عربيٍّ محدود.
لكنّ الواقع على الأرض أكثر تعقيدًا:
العشائر ليست جسدًا واحدًا، والمقاومة لم تفقد قدرتها، والشارع الفلسطيني لا يقبل وصايةً جديدة مهما كان غلافها السياسي ناعمًا.
المثلث الجديد: واشنطن – تل أبيب – غزة
اليوم، يتشكّل مثلث القرار بملامح واضحة:
واشنطن ترفع شعار التهدئة وهي تمارس التفكيك من الداخل.
تل أبيب تحاول بناء نظامٍ عشائريٍّ يخدم أمنها دون احتلالٍ مباشر.
غزة ترفض أن تُختزل في صيغةٍ أمنيةٍ ضيقة، وتتمسّك بأن الشرعية تولد من إرادة الناس لا من خريطة المكاتب.
وبين هذه الزوايا الثلاث، تبدو غزة مختبرًا سياسيًا وإنسانيًا يعيد تعريف معادلة القوة في المنطقة.
ما بين دم العشائر ودهاء الصفقات
ترامب لا يريد صدامًا مع العشائر، لكنه لا يمانع أن تتصادم.
يريد فوضى محسوبة تُنهك حماس وتفتح أمامه طريق "التسوية النظيفة” بلا كلفةٍ أميركية.
أما نتنياهو، فقد خسر أوراقه جميعًا: العسكر، السياسة، وحتى ورقة العشائر التي تحولت من أداةٍ في يده إلى مرآةٍ تعكس عجزه.
لكنّ الدم الفلسطيني ليس بندًا في جدول صفقات أحد، ولا يمكن لغزة أن تُدار بحسابات السوق.
الهدوء الذي يُبنى على فوضى هشٌّ بطبيعته، والسلطة التي تُقام تحت حماية المحتلّ لا تحوز شرعية الناس.
إنّ غزة التي صمدت أمام الحصار والقصف قادرةٌ على الصمود أمام هندسة الخرائط.
فالعشيرة جزء من المجتمع، لا بديلٌ عنه، والمجتمع الذي وُلد من تحت الركام لا يُدار إلا بإرادته.
أما السلام الذي يُصنع في ظلال البنادق، فليس سلا
مًا، بل هدنة تنتظر الشرارة التالية.