مبادرةُ "ض" … مبادرةُ إعادةِ ألقِ العربيّةِ وتعريبِ المحتوى الرّقميِّ


أنباء الوطن -

الدكتورة زينة محي الدين غنيم 

قدّمتْ مؤسّسةُ وليِّ العهدِ مبادراتٍ عدّةً تستهدفُ فئةَ الشّبابِ، بغيةَ دعمِهم وتطويرِ مهاراتِهم، وتحفيزِهم على مواجهةِ تحديّاتِ العصرِ، والانخراطِ في سوقِ العملِ بعقليّةٍ رياديّةٍ تنمازُ بالميلِ إلى الابتكارِ، إضافةً إلى المُشاركةِ في صنعِ القرارِ في سبيلِ الأخذِ بأيديهِم في بناءِ مستقبلِهِم والإسهامِ في خدمةِ مُجتمعِهِم.

تُعَدُّ مبادرةُ "ض" إحدى المبادراتِ التي أطلقتْها مُؤسّسةُ وليِّ العهدِ تنفيذًا لتوجيهاتِ صاحبِ السّموِّ الملكيِّ الأميرِ الحسينِ بنِ عبدِ الله التي يرنو فيها إلى "توحيدِ الجهودِ المبذولةِ تجاهَ اللّغةِ العربيّةِ، وتمكينِ الشّبابِ بالمزيدِ منَ المهاراتِ في هذا القِطاعِ، ليكونوا سُفراءَ عالميّينَ للغتِنا الأمِّ". وتشتركُ مؤسّسةُ وليِّ العهدِ مع مَجْمَعِ اللّغةِ العربيّةِ الأُردُنيِّ في تحقيقِ الأهدافِ التي تسعى إلى تنفيذِها تلكَ المُبادرةُ استنادًا إلى تضافرِ الجهودِ بينَهما. 

وأطلقَ صاحبُ السُّموِّ هذه المُبادرةَ من وحيِ إيمانِهِ بأنَّ العربيّةَ لغةُ القرآنِ الكريمِ يقولُ تعالى: "بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ" (الشّعراء: ١٩٥)، إذ تحتلُّ العربيّةُ مكانةً رفيعةَ المقامِ في نفوسِ أبنائِها، فهي لغةُ مصدرِ التّشريعِ 
الأوّلِ الذي يُتعبَّدُ بتلاوتِهِ، "إنّا أنزلناهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لعلّكمْ تَعقِلون" (يوسف:٢).

ولغةُ الضّادِ هي هُويّتُنا وتاريخُنا وانعكاسُ حضارَتِنا، إذ عمدَ العربُ منذُ فجرِ التّاريخِ إلى تقييدِ مآثِرِهم وأخبارِهم بنظمِ الشّعرِ الذي حفظَ اللُّغةَ والتّاريخَ، يقولُ الجاحظُ: "وكانتِ العربُ في جاهليّتِها تحتالُ في تخليدِها بأنْ تعتمدَ في ذلكَ على الشّعرِ الموزونِ، والكلامِ المُقفّى، وكان ذلكَ هو ديوانَها" (الحيوان: ج١)، فاللُّغةُ القابعةُ في تُراثِنا الأدبيِّ تبسطُ الحديثَ في ثقافتِنا وتاريخِنا وأدبائِنا بل تستقصي آثارَهم التي خلّدوا فيها تراثَنا وهُويّتَنا كما حفظتْ إرثَنا، ومن البدهيِّ القولُ بتمتعِّ العربيّةِ بصفاتٍ ومزيّاتٍ تغبِطُها عليها الأممُ الأخرى، ولسنا بصددِ ذكرِها لئلّا يطولَ أمرُ استقصائِها.

وجاءَ سعيُ الأميرِ الحسينِ إلى النّهوضِ بالعربيّةِ، وإرساءِ دعائمِها في نفوسِ شبابِنا، بعد أن ضاقتِ العربيّةُ بهم ذرعًا إثرَ ما لاقتْهُ من عسفِ الغُربةِ والتّغريبِ، وظلمِ ذوي القُربى في زمنِ الحداثةِ والميلِ إلى اللسانِ الأعجميِّ في مجالاتٍ عدّةٍ، ظنًّا منهم بأنّها تُعيقُ طريقَهم نحوَ التّقَدُّمِ وما يتمَخّضُ عنه، أبناءُ العربيّةِ الذين لا ننكرُ عليهِم فسادَ ألسنتِهم وافتقارَهم إلى الإلمامِ بلغتِهم الأمِّ، وفي هذا المقامِ نستذكرُ قولَ الرّافعيِّ الذي أنشأَ يقولُ:
"كانت لهم سببًا في كُلِّ مَكرُمَةٍ     وهم لِنَكبَتِها من دهرِها سَبَبُ"
لذا عزمَ صاحبُ السّمُوِّ على إطلاقِ هذه المُبادرةِ في وقتٍ تكادُ فيه لغتُنا تكونُ أحوجَ إلى من يُعيدُ ألَقَها ويصونُ قرارَها، وذلك ما نُعلِّلُ بهِ أنفُسَنا حتّى لا تنقطعَ علاقةُ أبنائِها بها انقطاعَ الجاهليّةِ الأولى.

وإيمانًا من سُمُوِّهِ بأنَّ العربيَّةَ لغةٌ عالميّةٌ فقد أسّسَ هذهِ المُبادرةَ على محاورَ عدّةٍ تكادُ تُختَزَلُ فيما وُسمَتْ بهِ "ض"؛ وعلى رأسِها نشرُ الوعيِ باللُّغةِ العربيَّةِ لدى الشّبابِ الأردنيِّ وذلك بالتّرويجِ لقيمَتِها في مجالاتِ التّأليفِ، والقراءةِ، والتّرجمةِ، وتأليفِ الكُتبِ، وزيادةِ أعدادِ المنشوراتِ والمقالاتِ بالعربيّةِ، وإعدادِ ورشِ عملٍ تدعمُها علميًّا وعمليًّا. ويكمنُ المحورُ الثّاني في تعزيزِ مكانتِها بوصفِها لغةً تقدّميَّةً ومُنتِجةً للمعرفةِ، وترجمةُ ذلك عبرَ مواكبتِها للعصرِ الرّقميِّ وتطويرِ التّقنياتِ المُستقبلةِ النّاطقةِ بالعربيّةِ في ظلِّ التّحدياتِ التي تُواجهُها لغتُنا نتيجةَ التّسارعِ التّقنيِّ.

وكذلك الولوجُ إلى تطويرِ محتوى اللّغةِ العربيّةِ وتعزيزِ وجودهِ رقميًّا وتقليديًّا، إذ جاءتْ هذه المُبادرةُ لزيادةِ المُدَوَّناتِ المكتوبةِ بالعربيّةِ سعيًا منها لرفعِ نسبةِ المُحتوى العربيِّ على الشّابكةِ العنكبوتيّةِ. كما لم يغفلْ سُمُوُّهُ في هذه المُبادرةِ التي عزَّ نظيرُها عنِ الاحتفاءِ بلغةِ الضّادِ وتقديرِ جهودِ المُساهمينَ في المُحافظةِ عليها وصونِ رونقِها، حيثُ دعتِ المُبادرةُ الّشبابَ إلى مُشاركةِ إنجازاتِهم في الحفاظِ على العربيّةِ التي رفدتْ بدورِها قطاعاتٍ شتّى؛ ثقافيّةً، وتاريخيّةً، ناهيكَ عن العلومِ والتّكنولوجيا تماشيًا مع عصرٍ تسارعتْ فيهِ خطى الأممِ نحوَ مواكبةِ التّقدُّمِ والحداثةِ.وتستندُ تلكَ المحاورُ في كُنهِها إلى تعزيزِ إيمانِ الشّبابِ بلغتِهم، وتحفيزِهم على إتقانِها بلسانٍ غيرِ ذي عِوَجٍ ؛ ليمثّلوها خيرَ تمثيلٍ، فهم سفراءُ اللُّغةِ -على حدِّ تعبيرِ سُمُوِّهِ-.

ولا تنفصلُ مآربُ تلك المُبادرةِ عن الجانبِ الاقتصاديِّ، فللمبادرةِ أثرٌ ناجعٌ على الصّعيدِ الاقتصاديِّ، إذ إنَّ كلَّ محاولةٍ لتنفيذِ محاورِها تُفضي بالضّرورةِ إلى خلقِ فُرصِ العملِ، وتعزيزِ القائمةِ منها، أمّا على الصّعيدِ التّقنيِّ فترمي المُبادرةُ إلى إدراجِ العربيّةِ ضمنَ تطبيقاتِ الثّورةِ الصّناعيّةِ الرّابعةِ؛ كالذّكاءِ الاصطناعيِّ، والروبوتات، وإنترنت الأشياء (IoT), وما إلى ذلك.

وتُحيلُنا مضامينُ هذه المُبادرةِ وما جاءَ فيها إلى ما أوردهُ جلالةُ الملكِ عبدِ الله الثّاني ابنِ الحُسينِ -حفِظَهُ الله ورَعاه- في الورقةِ النِّقاشيّةِ السّابعةِ الموسومةِ بـ "بناءُ قُدُراتِنا البَشرِيَّةِ وتطويرُ العمليّةِ التّعليميّةِ جوهرُ نهضةِ الأُمّةِ" التي ناقشَ فيها مِلَفَّ التّعليمِ وما يتّصلُ بهِ، على علمِهِ بثقلِ مَئونةِ النّهوضِ بهِ في ظِلِّ طائفةِ التحدّياتِ التي تُحيطُ بهِ وتحدُّ من الارتقاءِ بمستواه، وفيها أشارَ جلالتُهُ إلى ضرورةِ المواءمةِ بينَ الأصالةِ والمعاصرةِ، وخيرُ ما يُمَثِّلُ ذلك الاعتزازُ بلغتِنا وهُويّتِنا، فمن وجهةِ نظرِهِ لن يستطيعَ أبناؤنا النّهلَ من تُراثِهم والإفادةَ منهُ إلّا إذا "أحبّوا لُغَتَهُم العربيّةَ، وأجادوا فيها"، ومن رؤيةِ جلالتِهِ استقى سُمُوُّ الأميرِ جنوحَهُ إلى التّنبيهِ على مسألةِ الموازنةِ بين تراثِنا وواقعِنا، ذلك التُّراثُ الذي ينبغي على شبابِنا أن يستلهمَهُ ويبني عليهِ في مواكبةِ الحاضرِ، وبذا فإنَّ سُمُوَّهُ ينهجُ ذاتَ النّهجِ الذي رسمهُ جلالةُ الملكِ في الورقةِ النّقاشيّةِ ذاتِها.

وبدورِنا فإنّنا نشيدُ بالجهودِ التي تبذُلها مبادرةُ "ض" التي أُطلقَتْ بدعمٍ من صاحبِ السّمُوِ الملكيِّ الأميرِ الحسينِ بنِ عبدِ الله، الذي نظرَ إلى مكانةِ لغتِنا نظرةً ثاقبةً نافذةً، وجعلَ خدمةَ العربيّةِ مطلبًا من المطالبِ التي تُرامُ في زمنِ التّقدمِ والحداثةِ، فهو يؤمنُ بأنَّ حفظَ اللُّغةِ والارتقاءَ بها والمُباهاةَ بالانتماءِ إليها أمورٌ لا تتمُّ إلا بجهودِ أبنائِها وسدنةِ تُراثِها ممّن درجوا على حفظِ إرثِها، ويمكنُ تشبيهُ واجبِ أبناءِ العربيّةِ نحوَها بيُنبوعٍ يفورُ من الدّاخلِ، لا سيلٍ يتدفّقُ من الخارجِ، فذوو القُربى أولى بخدمتِها، واستِثارَتِها من مكامِنِها، وبعثِها من مرقدِها في سبيلِ إنزالِها منزلتَها، لئلّا تضيعَ هُويّتُنا وتموتَ موتًا لا حياةَ بعدَه إلى يومِ يُبعثونَ في ظِلِّ مُعطياتِ التّسارعِ المعرفيِّ والتّقدُّمِ التّقنيِّ الذي نشهدهُ اليومَ، يقولُ الرّافعيُّ في القصيدةِ ذاتِها:
"أنتركُ الغربَ يُلهينا بزُخرُفِهِ   ومشرقُ الشّمسِ يُبكينا وننتَحِبُ 
وعندَنا نهرٌ عذبٌ لشارِبِهِ    فكيفَ نترُكُهُ في البحرِ ينسَرِبُ"